بات من المؤكد أن البقية الباقية من هذا العقد ستمثل نقطة محورية في رسم الصورة العالمية ما بين قطبية أمريكية مطلقة قائمة، ومحاور قطبية تتشكل في الأفق قادمة، وفي مقدمتها الصين وروسيا العائدة كما العنقاء من تراب الهوان الذي لاقته في زمن جورباتشوف.
وقد جاءت قضية نشر درع الصواريخ الأمريكية في بولندا والتشيك لتفرض تساؤلا جوهريا إلى أين تمضي الولايات المتحدة في طريق إمبراطوريتها المنفلتة، على حد وصف المؤرخ الأمريكي الكبير اريك هوبسبوم؟ وهل تسعى لقيادة العالم أم للسيطرة عليه؟
هذا التساؤل في واقع الأمر أضحى مصيريا بالنسبة لسكان البسيطة، سيما في ضوء تلك القوة العسكرية الأمريكية غير المسبوقة في تاريخ الحضارات البشرية السابقة وقد أزعج بادئ ذي بدء كبار المحللين السياسيين والعسكريين على مستوى العالم، ذلك انه على ضوئه تترتب تداعيات وتبعيات لا حصر لها.
ولعله من بين أهم من تناول هذا الشأن بعمق التحليل كان مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق زيجينو بريجنسكي والذي يعد اليوم في طليعة النخبة الأمريكية المتحدية والمتصدية لأوهام الغزو العسكري الأمريكي القاتل.
وإذا كانت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش هي امتداد لفلسفة الإدارة الريجانية التي قدر لها هزيمة المعسكر الشيوعي فان واقع الحال يختلف اليوم اختلافا بينا رغم الأساطيل الأمريكية التي تطوق قارات الأرض، وعيون الفضاء التي أضحت أمريكية وتراقب ما يجري بدقة بالغة.
أما كيف اختلف المشهد فهذا ما يشير إليه بريجنسكي مذكرا الأمريكيين بوجوب عدم الخلط بين قوتهم والقوة غير المحدودة، فرفاهية أمريكا متشابكة مع رفاهية العالم والانشغال الناجم عن الخوف بالأمن الأمريكي المنعزل والتركيز الضيق على الإرهاب وعدم المبالاة بشواغل الإنسانية القلقة سياسيا لا يعزز الأمن الأمريكي ولا يتوافق مع حاجة العالم الحقيقية للقيادة الأمريكية وما لم توفق أمريكا بين قوتها الطاغية وجاذبيتها الاجتماعية المغوية والمضطربة في آن معا، فقد تجد نفسها وحيدة وعرضه للهجوم فيما تشتد الفوضى العالمية.
والمؤكد أن اختيار النموذج الروماني لعمارة الكابيتول الأمريكي أمر لم يكن وليد الصدف بل مقصود ومرغوب إليه ويحمل في باطنه حديث النزعة الإمبراطورية العالمية الجديدة، سيما انه لا روما القديمة ولا بكين، وكلتاهما عاصمتان لإمبراطوريتين عريقتين، ولا لندن الفكتورية اقتربت حتى من أن تكون نظيرة لها من حيث تركز القوة العالمية وصنع القرار، في بضعة مبان في وسط واشنطن. فالقرارات التي تتخذ ضمن مثلثين متداخلين، لكن متماسكين نسبيا، تبرز قوة الولايات المتحدة على نطاق العالم وتأثيرها الكبير في طريقة تطور العولمة، إذ يشكل خط ينطلق من البيت الأبيض إلى الكابيتول ثم إلى البنتاجون الذي يشبه الحصن ليعود مجددا إلى البيت الأبيض مثلث القوة. كما يبرز خط آخر ينطلق من البيت الأبيض إلى البنك الدولي الذي يبعد مسافة قصيرة إلى وزارة الخارجية ليعود ثانية إلى البيت الأبيض ليمثل حدود مثلث التأثير العالمي.
والمثلثان معا يرمزان إلى المدى الذي أصبحت عنده الشؤون الخارجية التقليدية شؤونا داخل هذا الطريق الدائري غير أن أوهام القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية، تصطدم بمفارقة فريدة وهي أن الأمريكيين على سطوتهم ونفوذهم، أضحوا منشغلين بالتهديدات النابعة من مصادر معادية أضعف من قوة بلادهم بما لا وجه لقياسه، ويعزز من القلق الداخلي أن النفوذ السياسي الأمريكي الطاغي، أضحى خنجرا مسموما في خاصرة واشنطن روما العصر وجعلها موضع حسد واستياء ومحل كراهية شديدة عند الكثيرين وهذه العدائية تستغل ويحرض عليها من قبل أكثر منافسي أمريكا التقليديين.
والمعنى الأوضح لمفارقة القوة هو أن أمريكا تجد نفسها اليوم ولا محالة منعزلة في عالم عدائي شكلته أفعالها وخلقته سياساتها وليس آخره الطوق الصاروخي الذي جعل رئيس روسيا يصف سياسات واشنطن بأنها «همجية غير مسبوقة».
والشاهد انه حال انفلات السعي الأمريكي وراء أوهام السيطرة الكونية غير المسبوقة بجانب التطلع إلى الأمن الأحادي المنفرد إنما يحول أمريكا من موطن للأحرار إلى دولة حصن عسكري متشربة ذهنية الحصار وبخاصة إذا وضعنا في عين الاعتبار انه مع نهاية الحرب الباردة انتشرت المعرفة التقنية والقدرة اللازمة لصنع أسلحة الدمار الشامل لا بين البلدان فحسب، بل ربما أيضا بين مجموعات سياسية ذات دوافع إرهابية وهو الأمر الذي لا تجدي معه أساطيل البحرية الأمريكية ولا صواريخ سماواتها نفعا في مواجهته وتبطل معه منظومة السيادة المطلقة وتعود أمريكا لتتحصن خلف المحيط من جديد .
وفي الجبهة الروسية المناوئة يجد المرء الدكتور «أناتولي ايفانوفيتش اوتكين» العالم الروسي والمؤرخ البارز في مجال الدراسات الأمريكية بين المنشغلين بمصير العالم في ظل الاستراتيجيات الأمريكية الساعية لجعل القرن الحادي والعشرين أمريكيا بامتياز، كما تذهب إلى ذلك وثيقة القرن والتي تبلورت في العام 1997 عن جماعة المحافظين الجدد.
وعند اوتكين أن أحدا لا يمكنه التنبؤ بما يجلبه تاريخ العالم من أحداث، فهذا التاريخ الذي قام بانعطافة مذهلة في تسعينات القرن العشرين يمكنه كذلك أن يفاجئنا بالمزيد جهة الهيمنة الأمريكية والتي لم يكن ليقدر لها أن تسود لولا الانهيار الدراماتيكي الذي أصاب المعسكر الشرقي في سويداء القلب، مما جعل حلفاء الاتحاد السوفيتي التسع السابقون وثلاث عشرة جمهورية من جمهوريات الاتحاد السوفيتي يفقدون توازنهم ويقعون تحت تأثير أمريكا.
وإذا كانت الولايات المتحدة تسعى للسيطرة على مقدرات العالم من خلال ما يعرف بمنظومة مادلين اولبرايت والتي تتمثل في أدوات وآليات تتراوح ما بين المنطق البسيط والحوافز الاقتصادية والمساعدة الفنية إضافة إلى المعاهدات الجديدة وتبادل المعلومات واستخدام القوة والتهديدات باستخدام العنف والمقاطعة والتهديد بالمقاطعة، فان هذه جميعا عند المؤرخ الروسي وان كفلت لواشنطن عاصمة القرن هيمنة لعشر سنين أو عشرين سنة قادمة فإنها لا تجذر لمصير هذه الهيمنة انطلاقا من أن الإحصاءات لا يمكنها الثبات طويلا في عالم سريع النمو ولا يمكن لأمريكا اعتمادا على قدرتها الخاصة فقط أن تضمن استمرار هيمنتها.
ولان السيطرة تستنزف مزيدا من القوة الأمريكية سواء ما يتعلق منها بالعناصر المادية الاقتصادية أو الاختصام من نموذجها الثقافي الليبرالي الديمقراطي فان قيصر واشنطن الجديد سيجد ذاته أمام خيارين أحلاهما مر وأطروحتين كلتاهما عرجاء، فإما المضي قدما في طريق عسكرة العالم والقارئ الجيد لاستراتيجية الدفاع الأمريكية لعام 2006 إضافة إلى التطلع لأرقام الموازنة العسكرية الأمريكية لعام 2007 والتي تربو على 716 مليار دولار يدرك أن بوش ومن لف لفه لا يلوون ذراعا عن السعي فيها وفي هذا نهاية واضحة للأحلام الإمبراطورية سيما مع العجز غير المسبوق في تاريخ الخزانة الأمريكية من جهة وتباطؤ معدلات النمو من جهة ثانية والارتفاع الجنوني لأسعار النفط حال إقدام الولايات المتحدة على مغامرة عسكرية جديدة في إيران، إضافة إلى المعارك المفتوحة في أفغانستان والعراق والحرب الهلامية على الإرهاب وهذه كلها تكلف الأجيال الأمريكية القادمة فرصة هائلة مضاعة إن جاز التعبير تتمثل في الإرث الإمبراطوري الوهمي المفقود.
فيما الخيار الآخر هو النكوص على الأعقاب والتخندق وراء الحدود الجيوسياسية الأمريكية بمعنى أن تقرر أمريكا صباح يوم ما أن تنفض عن يديها غبار النزعة العسكرية وتتراجع إلى الداخل كما فعلت الصين منذ أكثر من خمسمائة عام تاركة العالم من حولها يتخبط، فيما ساعدت هي بذاته على تخليقه من وحش العولمة وصولا لإحياء النزعات الانفصالية مرورا بالمعارك الإيديولوجية والدوجماطيقية المشتعلة في جنبات الأرض.
والشاهد انه إذا كانت الصين قد قدر لها أن تفعل ذلك فان الولايات المتحدة لن تستطيع ولن تكون قادرة على عزل نفسها عن الفوضى العالمية التي ستعقب ذلك الانسحاب مباشرة.
وبحال من الأحوال وفي ضوء أي من الخيارين نواجه بحتمية تاريخية للأحداث وهي أن مرحلة الهيمنة الأمريكية تواجه بالزوال وعليه فانه من غير المبكر جدا على الأمريكيين إدراك تلاشي سيطرتهم العالمية أو السعي إلى تحديد شكل الميراث النهائي لهيمنتهم.
ويبقى الإشارة إلى انه لكي تحقق أمريكا سيطرتها الكاملة على مسار القرن العشرين فإنها تقف أمام خيار حرج فهي إما أن تساعد الدول الجديدة في تقرير مصيرها وفي نهضتها هذه الدول التي خرجت عن نطاق الحدود الدولية التي كانت مستقرة وإما أن تهب للدفاع عن الحدود الحديثة لمائتي دولة مستقلة.
ومما لاشك فيه أن الولايات المتحدة تراهن اليوم على المستقبل وسوف تواجه كل الأطراف الرئيسية والمنظمات الدولية الموجودة على الساحة الدولية في القرن الحالي بدءا من الأمم المتحدة ضرورة تنظيم علاقاتها تجاه قوى الطرد المركزي في عالمنا المعاصر وإذا لم يتم الآن العثور على القواعد الأساسية في هذه العلاقات فلن تكون هناك حدود لرد الفعل الحادث عن الانهيار العرقي.
فالولايات المتحدة عملت كثيرا على التحول من هيمنة مبدأ وحدة الدولة إلى سيادة مبدأ تقرير المصير القومي مما أدى وكما يقال لفتح صندوق الباندورا أي إعطاء الأقليات حال انتصار مؤيدي تقرر المصير القومي فرصة لسيادة مستقلة وعندها ستظهر على السطح أكثر من مائتي دولة جديدة بما ينتج عن ذلك من توابع تغير من شكل العالم وفرص السيطرة عليه وهكذا تجابه واشنطن الحارس الرئيس للوضع العالمي الراهن مباشرة أكثر من أي دولة بهذا الخيار الصعب والذي عليه تترتب استحقاقات الإجابة على التساؤل إلى أين تمضي الهيمنة الأمريكية على العالم؟
ويبقى قبل الانصراف القول انه من المستحيل بمكان أن تنصب قلعة فوق تل كما يذهب أنصار التيارات اليمينية الأمريكية في خطاباتهم لتلقي بظلال من الرعب على كل ما هو تحتها وتطلب من العالم الانسياق وراء نموذجها الأخلاقي المليء بالازدواجيات المكروهة والملغومة بفكرة تكافؤ الأضداد في الروح الأمريكية الواحدة ومن الطبيعي أن تضحى ساعتها المدينة المقامة فوق الجبل محط الكراهية العالمية.
والمقطوع به أن الولايات المتحدة قد ضيعت أكثر من فرصة في النصف الثاني من القرن المنصرم لأن تكون مدينة فوق هضبة يمكنها أن تضيء العالم بأمل التقدم الإنساني وبالحث على نشر روح العدالة وسيادة قيم المساواة وتعلية أخلاقيات الإخاء وعندها فقط كان يمكن للنموذج الأمريكي أن يكون مركزا لرؤية حقيقية يمكن الجميع الصبو إليها، سيما وأنها تضيء قدام الناس. لكن قعقعة السلاح ما بين الدرع الصاروخي في أوربا الغربية وتحرك الأساطيل من جديد جهة الشرق الأوسط وتشكيل قيادة عسكرية لأفريقيا، وما خفي كان أسوا، يؤكد وبجلاء تام انه لا رؤية بريجنسكي ولا نبوءات اوتكين قد بلغت طريقها لساكن البيت الأبيض، الذي أضحى قلعة مظلمة مهووسة بالأمن والسيطرة ومصابة برهاب الارتياب، وقاربت من حدود النزعات العنصرية التي تلقى بظلالها السوداء المخيفة على العالم من حولها.